من
الملاحظ أن المولود ذكراً كان أم أنثى يميل في الشبه إلى أحد أبويه ،
وربما امتد هذا الشبه إلى بعض أقاربه من جهة الأم أو من جهة الأب ، وقد
قررت السنة النبوية وجه التشابه والاختلاف بين المولود وأبويه ، فعن أبي
هريرة رضي الله عنه قال : (جاء رجل من بني فزارة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي ولدت غلاماً أسود ، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : هل لك من إبل ؟ قال : نعم ، قال : فما ألوانها ؟ قال
: حُمْر ، قال : هل فيها من أورق ؟ قال : إن فيها لوُرْقا ، قال : فأنى
أتاها ذلك ؟ قال عسى أن يكون نزعه عرق ، قال : وهذا عسى أن يكون نزعه عرق ) أخرجاه في الصحيحين وهذا لفظ مسلم والأورق هو الأسمر المائل إلى السواد .
ففي هذا الحديث أشار النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى قوانين الوراثة التي
اكتُشفت حديثاً ، و التي اكتشف كثيراً منها ( مندل ) ، ففيه شرح للصفات
الكامنة المحمولة على المُوَرِّثات ، والتي لم توضع موضع التنفيذ ، لكونها
قد سُبقت أو غُلِبَت بمورثات أخرى ، فقد يرث الإنسان صفة من جد أو جدة بينه
وبين أحدهما مئات السنين .
فمن المعلوم أن سر الحياة في هذا الكائن هو الخلية ، وعندما درس العلماء
الخلية وتركيبها وجدوا أن مركز الخلية هي النواة التي تمثل الجزء الأهم
فيها ، بحيث إن غياب النواة ، يجعل استمرار الحياة مستحيلا ، ثم ذهبوا
يستكشفون أسرار هذه النواة في الخلية ، فوجدوا فيها أشكالاً غريبة ، تحب
وتتعطش للألوان بشكل كبير ، هذه الأشكال الغريبة هي أشبه بالمقصات أو إشارة
( x ) ، وهي المعروفة باسم الصبغيات أو الكروموسومات ، وهي التي تتحكم
في الصفات الفردية في الإنسان ، ووظائف الخلايا وتخصصها ، وتحتوي النواة
على ( 23) زوجاً من الكروموسومات .
والصفات الوراثية التي يأخذها الجنين من أمه أو أبيه ترجع إلى التزاوج الذي
يكون بين هذه الأزواج من الموروثات التي تحمل صفات كل الآباء وكل الأمهات ،
وهي تظهر في الوليد حسب مشيئة الله تعالى ، فبغلبة الكروموسومات الموجودة
في الأب يأتي المولود أكثر شبها به ، وبغلبة كروموسومات الأم تكون صفاتها
الموروثة أظهر في المولود .
وقد يكون المولود بعيداً كل البعد عن مشابهة أحد أبويه ، وذلك لأن الصفات
الوراثية - كما يقول علماء الوراثة - نوعان : سائدة ومتنحية ، فإذا كانت
متنحية وورثها الولد من الأبوين معاً ظهرت هذه الصفات فيه ، وإن لم تكن
ظاهرة في أبويه ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم ( نزعه عرق ) أي اجتذبه وأظهر لونه عليه .
وفي حديث آخر بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى أيضاً ، فعن عائشة
رضي الله عنها أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تغتسل
المرأة إذا احتلمت وأبصرت الماء ؟ فقال : نعم ، فقالت لها عائشة : تربت
يداك وأُلَّت ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعيها ، وهل يكون الشبه إلا من قِبَل ذلك ؟! إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله ، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه ) رواه مسلم .
وتعبير النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر بالعلو تعبير دقيق ، لأن هذه
الصفات إنما تثبت بالغلبة ، فإذا غلبت هذه المورثات ظهرت خصائصها و آثارها
في المولود .
وبهذا تكون هذه الأحاديث قد قررت حقيقة علمية لم تعرف إلا في العصر الحديث ،
فإن العلماء لم يتأكدوا من حقيقة الحيوان المنوي و البويضة ، واشتراكهما
في الخلق الجديد إلا حديثاً ، بعد اكتشاف المجهر ، وبعد اكتشاف و زرع
الصبغيات أو ( الكروموسومات ) ، فصلوات الله وسلامه على من لا ينطق عن
الهوى إن هو إلا وحي يوحى